13 يناير 2010

وليد خطاب: أن تكون أنت (2)

شباك قديم

يحتوي هذا القسم على ثمان قصص عبرت في مجملها عن قدرة القاص على التعبير عن مخزونه "الريفي" سواء بالألفاظ التي استخدمها أو الأغاني أو حتى قدرته على نقل "الخرافات" المتوارثة بأسلوب منطقي

1) شيخ الجميزة:

في القراءة الأولة استغربت الأرقام الموضوعة في بداية كل مقطع، ولماذا لاتأتي متسلسلة تصاعديًا؟ وما هذه الأصفار المتتالية(000)؟ هذه المرة عندما ملكت مفاتيح الكتابة لدي القاص أدركت روعة هذا التقسيم الرقمي والمزج بين الحديث عن الأسطورة/الجميزة وشيخها، وبين حكاية البطل/الشيخ خليل.

في هذه القصة عبر "وليد" عن الخوف بجمل وتراكيب تدل على موهبة في التكثيف والاختزال، فمثلاً في البداية جاءت جملة "ويصبح ما تحت صهد الشمس مرتعًا لما لا نملك له اسمًا" ثم "تنحدر سيادة البشر وتتراجع سيطرتهم إلى ما خلف أبواب دورهم المغلقة". أما أكثر ما أخذ عقلي بالفعل هو تصويره للصراع بين الخوف البشري داخل قلوب رجال القرية وبين تأنيب الضمير لديهم إزاء نظرات الزوجات، لم يسهب القاص أو يورد العبارات الضخمة/الرنانة بل كتب بمنتهي البساطة "بين الحقول تتوغل أقدامهم.. تذهب بهم خطواتهم بعيدًا عن الجميزة". فهم هنا لم يُظهروا خوفهم أمام النسوة وفي نفس الوقت "تظاهروا" بالقيام بالواجب فلا داعي للتأنيب، بالفعل جملة استوقفتني كثيرًا لروعتها.

أما نهاية القصة ففي البداية حيرتني بعض الشئ ثم ما لبثت أن ابتسمت أنا الأخرى مع الشيخ خليل وكأنه أخيرًا وجد من يجرؤ على السؤال ليزيح عن قلبه ثقل سره المكتوم، إنه هو شيخ الجميزة هذا الشيخ الموجود وسطهم بكل ما يحيطه من رهبة وخوف. حقًا نحن أعداء ما نجهل وقد تزول الرهبة إذا جرؤنا على السؤال.

2) همس الريح:

أحب قصص القسم الأول لنفسي بما يفيض منها من قدرة على صياغة الموروث الثقافي الريفي في إطارٍ سردي متميز، خاصةً هذا المعتقد المتوارث عن "الموت" و فترة "الأربعين يومًا" التي يقضيها الميت/الحيّ قبل وفاته. تذكرت جدتي رحمها الله فهذه الجملة طالما سمعتها منها كلما علمت بموت أحد الأحباء وتتذكر كيف كان يخلط بين الأحياء والموتى، ويُنادي على من سبقوه من أموات، وكثرة رؤيته لهم في أحلامه، كانت تتنهد وتقول "ما هو يا بنتي الميت بيفضل حيّ على وش الدنيا أربعين يوم قبل مايموت وبيبقى عارف بس ما يقدرش يقول". هذا الموروث الذي صاغه وليد بمنتهى الحرفية في هذه القصة.

من أسباب إعجابي بها أيضًا استخدام الخط المائل عند تغيير الصوت الحاكي، وكذلك الجمل القصيرة المُعبرة "حين كانت القوة في العدد، والدفء لا يُطلب إلا من أجساد البشر"؛ وتعبيره المذهل عن مدى الذعر لدى بنات البطل عند رؤيتهن "أبو شعليله" "يستمر ذعرهن طوال ساعات دقائق قضاها هو بعيدًا عنهن".. بحق تصوير مذهل. كذا نهاية القصة موجزة/بسيطة/مُعبرة. للمرة الثانية ذكرني بجدتي في أيامها الأخيرة حين أشتد بها المرض فكانت تقول: "ربنا ما يتقل بيَّ". وحين سألتها عن معنى هذا الدعاء، أجابتني: "الواحد مننا لما بيكبر ويعيّا بيبقى تقيل يا بنتي، حتى على أولاده". أعادني وليد أو أعاد إليّ تلك الذكريات البعيدة/القريبة بخاتمته البسيطة.

3) العجوز:

من القصص التي استوقفتني ولازلت حتى الآن لا أفهمها كلها، وإن كنت أحببت "العجوز" وتعاطفت معه والتمست له الأعذار في سرقاته الصغيرة ومكائده لفرج، وحزنت لنهايته ووجدتها غير منطقية بعض الشئ. فلماذا ثار فرج وكيف لم يجد بندقيته والعجوز لم يأخذها بل علقها على فرع الشجرة؟

كذلك وجدت بعض "اللخبطة" في حوار فرج مع العجوز (ص 27) أحسست أن هناك حلقة مفقودة، فلم يصل لي معناها كاملاً وانصرفت للبحث عن هذا المفقود فأضاعني معه!

عمومًا هذه القصة من أكثر النماذج الواضحة على الأسلوب السينمائي الذي ذكرته من قبل، فمن بحث فرج بين النوم واليقظة عن بندقيته، للعجوز وهو يؤنس خطوه بالغناء وهذا الموال الذي أرهقني حتى تذكرت أين سمعته، وتأكدت من صدق حدسي عندما سألت وليد عنه، أيضًا نظرة الدهشة والاستعجاب المرتسمة على وجه العجوز حين هوى عليه فرج بالحجر... كل هذه مشاهد تراءت أمامي من بين السطور، ووجدتها دليلاً على شدة صدق ودقة تعبير القاص وتمكنه من أدواته.

4) استقطاع:

أعجبتني هذه القصة وازداد إعجابي بها حين ربطها مع نهاية القصة السابقة، فالعجوز انتهت بعبارة: "ظللت أراه أعوامً بعدها.. حتى ذهب مع ظلمة البلدة التي قهرتها الكهرباء". وهنا يستكمل قصة دخول الكهرباء وكأن شبح العجوز هو من كان يُلازم الطفل بطل القصة.

بالطبع لو فكرت كواحدة من بنات المدن فلن يكن من المستساغ قبول فكرة الصداقة بين الطفل والشبح، والأحاديث المنسابة بينهما وكأنها أمر واقعي ومنطقي يحدث كل يوم، ولكن هنا ظهرت قوة إقناع القاص حيث تقبلت منه هذه العلاقة كمسلمة لا غبار عليها، ومرة أخرى استدعيت تراثي مع جدتي/ابنة الريف وحكاياتها عن "اللهم احفظنا" أو "بسم الله الرحمن الرحيم" كما كانت تحب أن تُطلق علي "العفاريت"، وزاد من تصديقي لوليد أنه أورد أحد الأوصاف الخالدة التي وصفتها لي جدتي عنهم "ساقي الماعز الحاملتين لجسده"، تلك الصفة التي صدقتها في طفولتي لدرجة كنت أتوجس معها من كل غريب لا أستطيع التاكد من أن ساقيه بشريتان أم ساقي ماعز.

في هذه القصة صدقت هذا الطفل الذي لا يثنيه شئ عن الفوز في لعبته، ولا يدع خوفه يسيطر عليه بل يُسرع لمصادقة ما يخافه. واستوقفني عنوان القصة وجعلني أفكر، هل حقًا لم يكن لنا الحق في "استقطاع" ظلمة الليل والتعدي على ما لا نملكه؟ هل لو لم نجترأ على هذا الاستقطاع كان سيأتي يومًا نصبح فيه كلنا/معظمنا هذا الطفل المختلف صديق الأشباح؟

5) بالطو زيتي:

أول ما قرأت لوليد وجذبني أسلوبها لعالمه، ولكنها هنا ذات طابع أخر، بعد ان فهمت ما لم اكن أفهمه. في التعارف الأول لم أُدرك أبعاد القصة كانت مجرد لقاء بين غفير وصاحب سيارة انقطع به الطريق، الآن رأيت الثلاث قصص، ورأيتها في مشاهد مرئية بالفعل فصاحب البالطو الزيتي بتلفيحته وخطواته المُسرعة وغنائه المؤنس، وحركته الفطرية وهو يضع حبات البرتقال في جيبه، أو وهو يُحكم التلفيحه طلبًا للدفء، ثم هذا المسافرالوحيد بسيارته الوحيدة في الطريق المظلم، وأخيرًا الصحابي "عزيز قومٍ ذل" في وحدته وخوفه لا يؤنسه سوى صهيل فرسه. شخصياتٍ ثلاث يجمعها المكان والوحدة و.. الخوف رغم الفاصل الزمني بينهم إلا أن الخوف هو السيد.

هذه القصة أطلقت لخيالي العنان، تخيلت ملامح الشخصيات، عشت لحظات خوفها ووحدتها، قصة استغرقت قدرًا من الوقت لتكتمل أبعادها أمامي، وأجبرتني على إعادة قراءتها مراتٍ عدة.

6) قراءة:

طفلٌ أخر يدخلنا لعالمه، طفل أخر مختلف/لا يتبع القطيع، يسخر في هدوء من الهيبة المفتعلة للمعلمة.

أعجبني أسلوب القطع السريع بين حركات وقراءة المعلمة وبين حركات وقراءة الطفل، وكأننا أمام مشهد سينمائي قام بتقطيعه مونتير محترف، كذلك المشهد الرائع حين تراءت/تداعت الجدران كاشفةً ما خلفها من عالم يشتهيه هذا الصبي.

أحسست بمدى براءة/شقاوة هذا الطفل وهو يتحايل على رفع يده طلبًا للسؤال، ثم وهو يسأل في النهاية بكل هدوء: "يعني إيه ملحد؟!!"

7) كومة من القش الدافئ:

عودة من جديد للموروث الثقافي الريفي، وهنا معنً أخر "التأديب" "صناعة الرجال". قصة بسيطة للغاية طفل أخطأ وتلقى عقابه "القاسي" من أبيه، هنا يجبرنا القاص على التفكير بعقلية ابن الريف، فالعقاب قد نراه بسيطًا بعض الشئ هنا في أرضية غرف النوم بالمدينة حيث الجدران الأسمنتية، والبرودة مهما كانت لا تضاهي برودة المنازل الجصية أو المبنية من الطوب النئ في وسط الأراضي الزراعية، حيث الأرضية المشبعة بالرطوبة والهواء اللاسع القادم عبر النوافذ. حين نضع أنفسنا موضع هذا الطفل المنكمش الموشك على التجمد من البرد والخوف والغضب، نشعر بمدى قسوة هذا العقاب. واستطاع القاص أن يُعبر عن هذه القسوة في عبارة موجزة "يصل إلى أذنيه صوت عقارب الساعة تعلن له أن الزمن هو السيد"، وكذلك تعبيره عن مدى الحنق والضيق والكراهية التي تملك جوارحه فيقول "ملامح وجهه الغليظة تملأ عينيه فيتخذ منها رصيدًا لكل ما يكرهه في ملامح أي وجه".

أخذتني الشفقة بهذا الطفل وامتلأت نفسي بالغضب من هذا الأب الظالم، كيف جرؤ على النوم قرير العين تاركًا ولده نهبًا للبرد والخوف؟

حبست أنفاسي وهو يتسلل للمطبخ وتوقعت النهاية الحتمية أن تُغرز هذه السكين في هذا القلب الجامد، ولكن جاءت النهاية غير المتوقعة ـ بالنسبة ليّ ـ وحاول الطفل الانتحار، وهذه النهاية أجدها الآن هي الأكثر منطقية في الجو الريفي حيث احترام الأب أو الخوف منه هو السيد.

8) خلايا رمادية:

لو فكرت في خاتمة للقسم الأول وتمهيد للقسم الثاني لما وجدت أروع من هذه القصة، أخذتني بثنائية السرد فيها والتداخل بين الحاضر والذكرى، رغم التسلسل الرقمي للمقاطع إلا أنها لا تعنى بالضرورة التسلسل الزمني للأحداث.

جاءت هذه القصة كتمهيد للخروج من الذكرى/الريف/البراءة/الدفء إلى برد الحاضر/الغربة/البرد.

أعجبني فيها مشهد البطل أمام صورة الحبيبة وتعلله بالدخان ليبرر دموع الحنين في عينيه. وإن كان ما أدهشني اللغة البسيطة والمحترمة في وصف لحظات الاكتشاف الأولى بين البطل والحبيبة ، أو الأنثى أيًا كان موقعها لديه، هذا المشهد الذي يُغري بالبوح والاستطراد والتفصيل دون أن يُلقى على كاتبه اللوم. ولكن "وليد" كان واعيًا ولم يقع في هذا الفخ، فهو في الأساس يحكي عن طفلٍ/شاب ريفي لن يكون مقبولاً أن يتحدث بلغةٍ فجة، وإنما جاء الوصف مُعبر عن الدهشة/الاستغراب/الاستنكار/الرغبة في اقتحام المجهول، في المجمل كان مشهد عبقري بحق.

أما خاتمة القصة فكل كلمة بها موضوعة في مكانها بحيث يستحيل أن تتخيل أي مرادفة أخرى غيرها، جسدت ما يعتري البطل من أحاسيس متناقضة بين الانتماء والغربة. وأعجبتني جملة النهاية واللامبالاة التي ألقاها بها صاحب الاستوديو "النيجاتيف متهالك.."جملة بسيطة ومُعبرة بحق.

ليست هناك تعليقات: