05 ديسمبر 2025

برّات البلد، جوّات البلد


كانت هذه البطاقة البريدية هي أول ما قابلني على المقعد مع صورة فوتوغرافية لبطل العرض ومخرجته وبينهما والدتها على ما أظن؛ بداية ودودة وترحيب حميم، مع ديكور المسرح البسيط وإضاءته الهادئة، وصوت فيروز ينساب بنعومة في الخلفية:
                         قال يا بيتًا لنا جاورتك الأنهر
                                 ليت ما كان هنا من سنًا لا يهجر
ويخفت الصوت رويدًا رويدًا، ليدخل "سعد حاجو" حاملاً حقيبة الظهر ويبدأ الحكي، في مونودراما إنسانية شديدة العذوبة، صاغها بذكاء وبراعه الروائي "عبد الوهاب الحمادي"، عن سيرة "حاجو"، ليقدم لنا سيرة "إنسان" وطننا العربي.
   العرض يخطف المُشاهد منذ اللحظة الأولى، ويورطه بالحكاية، ويدفعه للتفكير في التقاطعات الكثيرة بين حياته الخاصة وبين ما يسمعه على خشبة المسرح، ويثير في ذهنه أسئلة كثيرة عن معنى: "الوطن"، "النسيان"، "الحرية"، "الضياع"، "الانتماء". 
"حاجو" قدم أداءً طبيعيًا ومحترفًا في الوقت نفسه، حركاته، والدموع المحبوسة في عينيه في مقاطع بعينها، نبرة صوته وتلونها حسب ما يحكيه، ونجاحه في أن يحوِّل النص المكتوب لمشاهد مرئية عبر صوته فقط؛ رأيت أزقة دمشق وحاراتها، وزحمة السوق ثم هدوء مسجد ابن عربي، سمعت صوت زياد يسأله: "جوعان؟"، وشممت رائحة أزهار حديقة منزل الجدة بالشام، وشعرت ببرودة السويد، وفتنتني قباب قرطبة ومبانيها. 
قدم "الحمادي" في عرضه المسرحي الأول نص متماسك، يحمل بصمته وحسه الساخر، ونجح في توظيف جملة "أم بشير": "إنت يا سعد عم تنسى لإنك برّات البلد، وأنا عم إنسى لإني جوّات البلد، الله يحميك يا سعد"، واختيار أماكن تكرارها، بشكلٍ يربط أجزاء النص ويدعم مقصده. 
ثم يأتي الختام بتنويعة على الجملة نفسها، برع "حاجو" في أدائها ودمعة تلمع بعينيه، وصوته ينفذ للقلب مباشرةً: "أنا جوّات البلد وما عم بإنسى، وإنتِ برّات البلد وما عم تنسي"!
 وتخفت الإضاءة لينساب صوت فيروز ثانيةً، وتنساب معه الدموع:
             كلهم قد كَبُروا.. أهلنا والزهرُ
                       وأنا في هدب من أهوى.. سُنونُ تعبرُ.

ليست هناك تعليقات: