14 سبتمبر 2023

سلامٌ على إبراهيم


 "تستند الرواية على وقائع حقيقية، لكن محمد عفيفي لم يتعامل معها برؤية المؤرخ الذي يوثق حدثًا تاريخيًا ويحلله، بل بخيال الروائي الذي يخلق الأحداث وينسج جمل الحوار متحررًا مما يكبل المؤرخ من قيود".

كانت هذه الكلمات جزءًا مما كتبه الأستاذ الدكتور عماد أبو غازي على الغلاف الخلفي لرواية "سلامٌ على إبراهيم"، وهنا يقدم أبو غازي للقارئ "المفتاح السحري" للدخول إلى عالم محمد عفيفي؛ كمؤرخ لم يقدم عفيفي ما يكتبه على أنه "التاريخ"، وإنما جاءت كتاباته التاريخية تأكيدًا على أنه لا توجد رؤية أُحادية للتاريخ، وأن ما يكتبه المؤرخون هو "وجهة نظر" لما حدث، وأن الحدث الواحد له عدة أوجه ويمكن التعبير عنه بأكثر من سردية تاريخية.

وعند دخوله لعالم الرواية كانت غايته- عن قصدٍ أو دون قصد- تخليص القارئ من الأفكار المسبقة عن "ماهية الرواية التاريخية؟" وأنها "وسيلة لتلقين القارئ بعض المعلومات التاريخية في قالبٍ درامي". لا يقدم عفيفي لقارئه معلومات كثيرة مذيلة بهوامش ومراجع، وإنما يتخذ من "المسكوت عنه"، أو ما تم تهميشه في التاريخ نقطة انطلاق له، ثم يطلق لخياله العنان لتقديم ما يمكن أن يسد الفراغات المسكوت عنها.

في روايته الأولى حاول عفيفي "صدمة" قارئه باختيار شخصية خلافية تتضارب حولها المعلومات والآراء مثل يعقوب، لكي يلفت انتباه القارئ إلى أنه لا توجد أحكام قاطعة في التاريخ، وأنه بين الأبيض والأسود مساحات رمادية هائلة هي المسرح الأساسي الذي تجري به الأحداث وتعيش الشخصيات التاريخية وتلعب أدوارها عليه، وتلك المساحات هي ما يجب على المؤرخ سبر أغواره ولكن القيود الأكاديمية تعوقه، فكان في الخيال الروائي فسحة للبوح بما لا يستطيعه الأكاديمي.

وفي روايته الثانية "سلامٌ على إبراهيم" يُكمل عفيفي ما بدأه، باختيار شخصية تاريخية يصدم القارئ بحديثه عنها ويهز الثوابت التي تقوم عليها صورة إبراهيم باشا في العقل الجمعي، وهنا الصدمة مزدوجة؛ فالقارئ العادي يعرف إبراهيم باشا "البطل الفاتح" القائد العظيم كما تقدمه الكتب المدرسية ويبرزه تمثاله الشهير وهو يمتطي صهوة جواده شاهرًا سيفه يكاد يُسمع صوته وهو يصيح في جنوده: "إلى الأمام يا أولاد". أما القارئ المتخصص يعرف ما روجه أعداء إبراهيم باشا حول صحة نسبه لمحمد عليّ، فيجد في الرواية صورة مغايرة لإبراهيم باشا "الابن المزعوم".

في الروايتين يصحب عفيفي قارئه في رحلة بين زمنين: الزمن الذي عاشت فيه الشخصية التاريخية، والزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية. ولكن بقراءة متأنية نجد أن هناك زمنًا ثالثًا يشتبك معه القارئ وهو الزمن الحالي، أي وقت كتابة الرواية نفسها، فلا يمكن قراءة المشكلات التي واجهت صُناع فيلم "إبراهيم باشا" في أربعينيات القرن الماضي، دون التفكير في الوضع الراهن واستمرار بعض هذه المشكلات قائمًا إلى الآن بشكلٍ أو بآخر.

"سلامٌ على إبراهيم" لا تقدم تاريخ إبراهيم باشا منذ ولادته حتى وفاته، وإنما بذكاءٍ شديد يستدعي عفيفي إبراهيم باشا في لحظاتٍ قليلة كاشفة، سواء كطيفٍ زار أحمد رامي ليضعه أمام مرآة نفسه ويسأله: عن أي إبراهيم تكتب؟! أو كصورٍ متناقضة تقدمها "الوثائق الرسمية" يجد شفيق غربال نفسه غارقًا بينها، فأي صورةٍ يختار لتكون هي البطل في الفيلم المأمول؟! أو الصورة المثالية التي تبناها يوسف وهبي في كتابة السيناريو "الرسمي" للفيلم، والتي تخدم رؤيته بأن "الفن حركات"؟!

"التاريخ حمَّال أوجه"... جملة اختزل فيها عفيفي نقاشات وآراء كثيرة، وقدم تجسيد عملي لها عبر فصول الرواية التي ضمت أصوات عديدة لكلٍ منها وجهة نظره، دون تغليب صوتٍ على آخر، لإشراك القارئ معه في "اللعبة" ليكوِّن صورته الخاصة عن "التاريخ"، البطل الحقيقي لأعمال محمد عفيفي المؤرخ والروائي.

ليست هناك تعليقات: