07 يوليو 2021

يعقوب: المجد للأحلام


 

"قال الراوي يا سادة....

هذا زمان البوح: العمر والأحلام المؤجلة".

بهذه العبارات أعلن د.محمد عفيفي عن صدور روايته الأولى "يعقوب"، وكعادته لا يكتب حرفًا دون أن يكون وراءه معنى وله دلالة؛ بالفعل هذا زمان البوح، تكثر به كتابات السير الذاتية وتجارب العمر للأدباء والمفكرين والساسة والمشاهير، سواء على شكل كتب سيرة ذاتية خالصة أو من وراء حجاب الرواية والقصص. كمؤرخ رصد عفيفي عددًا من هذه الكتابات وبدأ سلسلة مقالات بالعنوان نفسه "هذا زمان البوح"، وفي روايته يبوح بالكثير عن التاريخ والكتابة التاريخية بين جيل متحفظ يقدس الوثائق وجيل جديد منفتح على العالم مؤمن بتكامل العلوم وضرورة مواكبة تطورات العصر. يبوح بما غضت الكتابات الأكاديمية الطرف عنه عند الحديث عن شخصية خلافية غنية بالمتناقضات مثل المعلم يعقوب، يُرجعه إلينا إنسان من لحمٍ ودم، له مبرراته ومنطقه في كل ما فعل دون شيطنته أو الإفراط في تمجيد دوره. يبوح بمتاعب مؤرخ له روح فنان وسط كهنوت جامد يسخر- بل ويدمر- كل مخالف أو خارج عن الإطار المرسوم سلفًا.

"يعقوب" حلم طارد عفيفي ربما لنصف عمره أو أكثر؛ صدفة أوقعت بين يديه الرواية الرسمية للكنيسة عن يعقوب، الشاب الصغير الباحث في تاريخ الأقباط في الماضي ليفهم لماذا يقع تفجير بكنيسة يروح ضحيته أبرياء مسلمين وأقباط، ورقة صغيرة تدخله عالم واحد من أكثر الشخصيات القبطية المثيرة للجدل والتي لم يقترب منها مؤرخ بدراسة مُنصِفة ولا حتى حكى عنها أديب!

خمسة وعشرون عامًا يظهر فيها يعقوب للتلميذ الشاب ويختفي دون أي تفسير، أحلام متباعدة تداهمه يرى فيها وجوه يعقوب المتعددة: صاحب الحلم، الماجن، الغاضب، صاحب النفوذ، الخائف من الموت. خمسة وعشرون عامًا يطارد التلميذ شبح يعقوب ولا يمكنه الإمساك به، في كل مرة يفاجئه بوجهٍ جديد يزيده حيرة. أخذ بنصيحة أستاذه وترك دراسة هذه الشخصية الخلافية، واكتفى بما يُشبع نهم فضوله كمؤرخ لسبر أغوار هذه الشخصية والتعرف عليها. لكن الحلم قد يؤجَل لكنه لا يموت أبدًا؛ كبر التلميذ وتخفف من أعباء الوظائف الإدارية وحان وقت تحقيق الأحلام المؤجلة، وكان السؤال الأصعب هل يقدم دراسة أكاديمية عن يعقوب؟ كانت الإجابة سريعة وواضحة وحاسمة: لا. يعقوب بشخصيته المثيرة للجدل، والتلميذ بفكره غير التقليدي المتحرر من الكهنوت الأكاديمي لا يليق بهما دراسة جامدة، لا بُد من قالب يناسبهما، فكانت الرواية هي الوسيط المثالي.

"يعقوب" ليست سيرة ذاتية، لا ليعقوب ولا للتلميذ نفسه، قد يكون بها بعض من سيرتهما، لكنه ليس المقصد الأساسي، الحلم هو كلمة السر في هذه الرواية؛ حُلم التلميذ بكتابة تاريخية جديدة أكثر قربًا من الناس، حُلم الخروج من نمطية "الأبيض والأسود" في إصدار الأحكام على الشخصيات التاريخية، بل وربما الخروج من فكرة إصدار الأحكام نفسها!

"يعقوب" رواية غنية رغم قصرها، عوالم متداخلة بين الحقيقة والخيال. منذ الصفحة الأولى وإلى أخر كلمة في الرواية يضع "عفيفي" القارئ في حيرة مُحَبَبة بتقديمه شخوص حقيقية سواء في زمن يعقوب: المعلم جرجس الجوهري، الشيخ المهدي، ديسيه، لاسكاريس، أو في زمن كتابة الرواية: آندريه ريمون، ضحى عاصي، ماجد كامل، ضياء العنقاوي، خالد عبد المحسن.... أسماء كثيرة ربما قابل القارئ بعضًا منها شخصيًا! مواقف عاشها التلميذ على مدار حياته يصوغها عفيفي برهافة حسٍ عالية يمزج فيها الحقيقة بالخيال فلا تدري هل ما دار بين الشيخ المهدي ويعقوب حدث فعلاً أم هو مجرد حلم رآه التلميذ؟ هل الحوارات الطويلة مع أصدقاء التلميذ حول يعقوب وتحليل شخصيته محض خيالٍ روائي أم توثيق لمحاوراتٍ حقيقية؟

"يعقوب" بدأت بالتلميذ الباحث عن الإجابات غير التقليدية وسط جمود وتحجر أكاديمي، وانتهت بالتلميذة/ الحلم بجيل جديد خارج عن المألوف منفتح على العالم، يُكمِل ما بدأه التلميذ، وبينهما ثمانية عشر لوحة درامية تتناغم فيها حكمة المؤرخ الخبير وخيال الروائي الحالم، لا تقدم إجاباتٍ قاطعة نهائية ولا رؤية آحادية، وإنما تفتح مجالاً واسعًا لمزيد من التساؤلات والبحث.. والحلم.

 المجد لمن عاش ومات تلميذًا حالمًا باحثًا عن إجابات.

ليست هناك تعليقات: