08 فبراير 2024

أسفار مدينة الطين

 الصبي المُولَع بالحكايات، كثير الأسئلة، قليل الكلام..

الصبي واسع العينين في صورةٍ قديمة بعامه الأول، يُمسك بيمناه قلم عمه الـ"Dupont"، "سوف يصير كاتبًا" قالتها جدته.. وصار.

الصبي الذي وبخوه صغيرًا حين أخرج لسانه، كَبُر وأصبح "زرزورًا" له قصائد وأغنيات وحكايات تعرفها كل الناس، وأخرج لسانه- على الورق- مستهزئًا بعالمٍ وقح لا يستحي..

***


"أتمنى أن يحظى العمل بالقبول، وأن يستحق سنوات الغياب"

جملة هي أول ما طالعته صباح الأحد 24 سبتمبر 2023 على صفحة "سعود السنعوسي"، بشر بها بصدور روايته الجديدة "أسفار مدينة الطين" في جزئين من أصل ثلاثة أجزاء. تمنيت صدور الطبعة المصرية في أسرع وقت، وجاء المساء حاملاً خبر إصدارها صبيحة اليوم التالي، بادرت بحجز نسختي تليفونيًا، وخاب أملي حين تأخر وصولها للمكتبة، وانتظرت لصباح الثلاثاء لتكون "أسفار مدينة الطين" هدية يوم ميلادي.

اضطرتني التزامات عائلية لتأجيل القراءة حتى أواخر نوفمبر حين انفردت بيَّ الأسفار وأدخلتني عالمها ليومين، هما- ليس من قبيل المبالغة- أجمل أيام 2023.

                                                ***

     بداية قراءتي لسعود السنعوسي كانت في 2015، ومن المصادفة أنه العام نفسه الذي بدأ فيه في كتابة أسفار مدينة الطين. بدأت بترشيح من الصديق العزيز "إبراهيم عادل" الذي أعارني نسخته من "ساق البامبو"، وظلت معي أسبوعًا قرأتها فيه مرتين. كانت تجربتي الأولى مع روائي كويتي، وفي العام نفسه قرأت "فئران أمي حصة" ومن وقتها وأنا مولعة بكتابات السنعوسي، وانتظر جديده بصبرٍ نافذ، قرأت مقالاته، ومدونته "رفوف"، وشاهدت كل ما استطعت الوصول إليه من لقاءاتٍ مصورة معه، وحتى صدور روايته "ناقة صالحة" كنت أظن أنه لن يكتب أجمل من "فئران أمي حصة"- أقرب رواياته إلى قلبي- إلى أن قرأت "أسفار مدينة الطين" التي فاقت كل توقعاتي واستحقت سنوات الغياب.

***

الهوية"/"من أنا؟" شغل سعود الشاغل في رواياته، ومن قبلها في مقالاته وتدويناته؛ "الكويت" البلد الساكن قلب سعود؛ "الآخر"/"المختلف" أيًا كان اختلافه (دينيًا ، عرقيًا، فكريًا، سياسيًا...) كيف يراه سعود، بل كيف يرى نفسه/شخصياته على ضوء ذلك المُختلِف؟

تيمات أساسية غزل حولها سعود رواياته، وفي كل مرة تبدو وكأنها المرة الأولى.

ستة أعوام استغرقتها كتابة الأسفار، وما يقرب من العامين لتحريرها وتجهيزها للنشر، مدةٌ طويلة تستحقها رواية كأسفار مدينة الطين، التي كشف جزئيها اللذان صدرا عن وجهٍ جديد لسعود السنعوسي، الروائي صاحب الروايات الست التي لا تشبه واحدتهن الأخرى، وكلهن يشبهن الصبي الذي يقاوم الفقد بالكتابة.



لا يرجع إعجابي بالرواية لجمال النص وروعة الحكاية التي يحكيها، ولا للغة العذبة التي تجعل لكل شخصية صوتًا مميزًا تكاد تسمعه من بين السطور، ولا لتصديقي بوجود "صادق بوحدب" وأعماله المتنوعة التي كتبها على مدار ما يقرب من نصف القرن. ولكن منذ صفحة الإهداء في رواية صادق بوحدب، والتي وجهها إلى "حُرَّاس الغُبار"، وأنا متورطة مع هذا النص الذي يتبنى موقفي من "حملة أختام التاريخ" ونظرتهم للرواية، بل وحتى للكتابات التاريخية غير الممهورة بأختامهم! ومع قراءة الصفحة الأولى في الفصل الأول، اعتلت وجهي ابتسامة فرح وإعجاب بسعود الذي لم يخذلني أبدًا؛ تقسيم الصفحة لمتنٍ وهامش يشبه تمام الشبه الأطروحات الأكاديمية التي نعتمدها في كتابة التاريخ، وللحق برع سعود في اللعب بهذا التقسيم، وكانت اختياراته ذكية للكلمات التي توقف عندها الرقيب/ محرر وزارة الإعلام لشرحها أو الاختلاف معها، والهوامش التي اختار صادق بو حدب أن يشير إليها ويوضحها، ووسط كل هذا- وبتلقائية شديدة-  يظهر سعود الذي يلعب بالرقيب وبصادق، ويقول: أنا هنا وهذا هو موقفي، دون أن يكون وجوده مزعجًا أو فجًا.

رغم كبر حجم الرواية، إلا أنه لا توجد بها أي زوائد، بل على العكس من ذلك، ما بين السطور، والحوار بين المتن والهامش أكبر بكثير من صفحات الرواية الثمانمائة واثنان وخمسون. ما أن تبدأ في التعرف بأبطال الرواية، تخطفك حكاياتهم ولا تشعر بالوقت إلا مع انتهاء سفر التبة، وتبقى عالقًا وسط الحكاية تنتظر بصبرٍ نافذ ما يحمله سفر العِنفوز من نهايات- أو لا نهايات- لأبطالٍ رأيتهم رأي العين يتحركون أمامك ويبوحون لك بمكنوناتهم، وخمنت بعض ما صاروا إليه ولكنك لا تأمن تقلبات كاتب الأسفار، فلا تستطيع الجزم بأي شيء إلا مع الانتهاء من قراءة ما خطه كاتب الأسفار في سِفره الثالث.

                                             ***

"أسفار مدينة الطين" نقطةٌ فارقة في مشروع سعود السنعوسي الأدبي، فما وصل إليه فيها من براعةٍ وجِدة سواء على مستوى الشكل الروائي أو في مضمون العمل نفسه، ألقى على عاتقه مسئولية كبيرة فيما سيُصدره بعد الأسفار، وهو ما أثق تمامًا أنه سيكون مختلف وصادق كما عهدته دومًا.


14 سبتمبر 2023

سلامٌ على إبراهيم


 "تستند الرواية على وقائع حقيقية، لكن محمد عفيفي لم يتعامل معها برؤية المؤرخ الذي يوثق حدثًا تاريخيًا ويحلله، بل بخيال الروائي الذي يخلق الأحداث وينسج جمل الحوار متحررًا مما يكبل المؤرخ من قيود".

كانت هذه الكلمات جزءًا مما كتبه الأستاذ الدكتور عماد أبو غازي على الغلاف الخلفي لرواية "سلامٌ على إبراهيم"، وهنا يقدم أبو غازي للقارئ "المفتاح السحري" للدخول إلى عالم محمد عفيفي؛ كمؤرخ لم يقدم عفيفي ما يكتبه على أنه "التاريخ"، وإنما جاءت كتاباته التاريخية تأكيدًا على أنه لا توجد رؤية أُحادية للتاريخ، وأن ما يكتبه المؤرخون هو "وجهة نظر" لما حدث، وأن الحدث الواحد له عدة أوجه ويمكن التعبير عنه بأكثر من سردية تاريخية.

وعند دخوله لعالم الرواية كانت غايته- عن قصدٍ أو دون قصد- تخليص القارئ من الأفكار المسبقة عن "ماهية الرواية التاريخية؟" وأنها "وسيلة لتلقين القارئ بعض المعلومات التاريخية في قالبٍ درامي". لا يقدم عفيفي لقارئه معلومات كثيرة مذيلة بهوامش ومراجع، وإنما يتخذ من "المسكوت عنه"، أو ما تم تهميشه في التاريخ نقطة انطلاق له، ثم يطلق لخياله العنان لتقديم ما يمكن أن يسد الفراغات المسكوت عنها.

في روايته الأولى حاول عفيفي "صدمة" قارئه باختيار شخصية خلافية تتضارب حولها المعلومات والآراء مثل يعقوب، لكي يلفت انتباه القارئ إلى أنه لا توجد أحكام قاطعة في التاريخ، وأنه بين الأبيض والأسود مساحات رمادية هائلة هي المسرح الأساسي الذي تجري به الأحداث وتعيش الشخصيات التاريخية وتلعب أدوارها عليه، وتلك المساحات هي ما يجب على المؤرخ سبر أغواره ولكن القيود الأكاديمية تعوقه، فكان في الخيال الروائي فسحة للبوح بما لا يستطيعه الأكاديمي.

وفي روايته الثانية "سلامٌ على إبراهيم" يُكمل عفيفي ما بدأه، باختيار شخصية تاريخية يصدم القارئ بحديثه عنها ويهز الثوابت التي تقوم عليها صورة إبراهيم باشا في العقل الجمعي، وهنا الصدمة مزدوجة؛ فالقارئ العادي يعرف إبراهيم باشا "البطل الفاتح" القائد العظيم كما تقدمه الكتب المدرسية ويبرزه تمثاله الشهير وهو يمتطي صهوة جواده شاهرًا سيفه يكاد يُسمع صوته وهو يصيح في جنوده: "إلى الأمام يا أولاد". أما القارئ المتخصص يعرف ما روجه أعداء إبراهيم باشا حول صحة نسبه لمحمد عليّ، فيجد في الرواية صورة مغايرة لإبراهيم باشا "الابن المزعوم".

في الروايتين يصحب عفيفي قارئه في رحلة بين زمنين: الزمن الذي عاشت فيه الشخصية التاريخية، والزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية. ولكن بقراءة متأنية نجد أن هناك زمنًا ثالثًا يشتبك معه القارئ وهو الزمن الحالي، أي وقت كتابة الرواية نفسها، فلا يمكن قراءة المشكلات التي واجهت صُناع فيلم "إبراهيم باشا" في أربعينيات القرن الماضي، دون التفكير في الوضع الراهن واستمرار بعض هذه المشكلات قائمًا إلى الآن بشكلٍ أو بآخر.

"سلامٌ على إبراهيم" لا تقدم تاريخ إبراهيم باشا منذ ولادته حتى وفاته، وإنما بذكاءٍ شديد يستدعي عفيفي إبراهيم باشا في لحظاتٍ قليلة كاشفة، سواء كطيفٍ زار أحمد رامي ليضعه أمام مرآة نفسه ويسأله: عن أي إبراهيم تكتب؟! أو كصورٍ متناقضة تقدمها "الوثائق الرسمية" يجد شفيق غربال نفسه غارقًا بينها، فأي صورةٍ يختار لتكون هي البطل في الفيلم المأمول؟! أو الصورة المثالية التي تبناها يوسف وهبي في كتابة السيناريو "الرسمي" للفيلم، والتي تخدم رؤيته بأن "الفن حركات"؟!

"التاريخ حمَّال أوجه"... جملة اختزل فيها عفيفي نقاشات وآراء كثيرة، وقدم تجسيد عملي لها عبر فصول الرواية التي ضمت أصوات عديدة لكلٍ منها وجهة نظره، دون تغليب صوتٍ على آخر، لإشراك القارئ معه في "اللعبة" ليكوِّن صورته الخاصة عن "التاريخ"، البطل الحقيقي لأعمال محمد عفيفي المؤرخ والروائي.

24 فبراير 2022

أتعرف ما معنى اللَّوْعَةُ؟

 يخبرني المعجم أنها: "حُرقةٌ في القلب وألمٌ يجده الإنسان من حبٍّ أو همٍّ أو حزنٍ أو نحو ذلك".

ما بالك بحُرقةٍ تنهش جسدي كله ولا تكتفي بالقلب وحده؟!

تتألم وحدك وينفطر قلبي على البُعد، يهجرني النوم ويسكن القلق عقلي، أعجز عن مشاطرتك آلامك وأنا أحق الناس بك!

أغفو للحظاتٍ فأكون معك، أشاركك جلستك وأرتب فوضى مكتبك، تقترب مني وتميل برأسك نحوي لتسمع ما اقول لك...

أنسى الكلام وأمد يدي أربت على كتفك فتحيطني بذراعيك وتمنحني حضنًا حنونًا وابتسامتك ملء الوجه.

أصحو من غفوتي ودفء صدرك يسكن أضلعي، وطمأنينة ضمتك الحانية هي زادي لاحتمال يوم جديد لا أكون فيه جوارك.

لو أن الحياة عادلة لكنت الآن على بُعد خطواتٍ منك، أغفو على الأريكة رهن همسةٍ منك، أرى بعيني ما يحدسه قلبي...

أحبك، وأحب الحياة لأنك بها.

دمت لقلبي الحياة

فجر الأربعاء 2 فبراير 2022

20 أغسطس 2021

الفَوضَويّ الذي أحبه!

فوضاك، في البُعد، تربكني!

في كل ثانية أغمض عيني وأتوقع، أين تكون؟ 
في الصالة، ممد على الأريكة أمام الشاشة الذكية؟ تعبث بأزرار جهاز التحكم عن بُعد، لا تستقر على قناة، إلا إذا صادفت فيلمًا قديمًا أو شد انتباهك قناة للأخبار.
المنضدة أمامك، كعادتها، ممتلئة ببقايا مشروبات وتسالي، وبقايا المناديل الورقية المستعملة، كم تزعجني تلك المناديل، أينما جلست تتركها حولك وكأنها الأثر الباقي الدال عليك!
ربما قادتك قدماك للمطبخ، الأحواض ممتلئة بأكوابٍ وأطباق وملاعق، إناء طهيِ به بقايا غير محددة المعالم يرقد فوق الموقد، والثلاجة تتكدس بها أطباقِ فارغة وشبه فارغة، وعلب انتهت صلاحية ما بها، وثمرة فاكهة في الركن لا تدري ما الذي جاء بها إلى هذا المكان؟!
أم تراك تعبت وتريد النوم؟ السرير وملاءته المتهدلة، وأكوام الملابس فوقه وفوق الكرسي وأحيانًا على الأرض!
وربما قررت أخيرًا ترتيب المكتبة، التي توحشت محتوياتها وزحفت لتملأ الأرفف والأرض وتمتد حتى مائدة الطعام التي اختفى زجاجها تحت أكوام الكتب والأوراق والمجلات!

كيف تتحول كل هذه الفوضى إلى مكان صالح للسكنى حين تسمح لي بالدخول إليها ولو لساعاتٍ قليلة؟!
تمضي الساعات وأنا أتساءل لو أن هذا الحظر كان برفقتك، هل كنت سأعتاد الفوضى، أم كنا سنصنع جنتنا المشتهاة؟!

أحبك، وأحب فوضاك، وأحب ساعاتٍ أعيشها أُحيل فوضاك لسكنٍ ليته يضمنا يومًا.

الإثنين 30 مارس 2020

24 يوليو 2021

أشياء أريدك أن تعرفها قبل نهاية العالم

في أيامٍ صعبة كتلك التي نعيشها، لا تشغلني الإحصائيات ولا الأرقام، لا يشغلني سوى خاطر وحيد: لماذا لست معك؟

لا يفزعني إلا عدم مقدرتي على الاطمئنان عليك بشكلٍ دائم، لا يهمني إلا أن أكون معك.

صفحة الرسائل المتبادلة بيننا، مفتوحة أمامي على الدوام؛ "بحبك" أربعة أحرف أكتبها وأمحوها عشرات المرات.

وجهك هو أول ما أطالعه كل صباح، وأخر ما أختم به يومي، صورتك لا تفارق عيني، اتساءل كل ثانية: ترى كيف أنت الآن؟ أتخيلك جواري نضحك سويًا على ما فعلته بك أيام العزل، وكيف تحقق حلمك أخيرًا لتكون لك هيئة الفنان البوهيمي ذو الشعر الثائر واللحية الطليقة!

ودَّدت لو أخبرتك كيف تزيدك الأيام وسامة، وتُكسِبك جاذبية تُشعل غيرتي عليك، أوَّد لو أصارحك بصورتك الحقيقية في قلبي، تلك التي لا يغيرها إطلاق لحية ولا إعفاء شارب؛ أنت الحبيب في كل حالاتك.

خمسون يومًا مرت على أخر مرة رأيتك فيها وجهًا لوجه، أوَّد لو أخبرتك كم أشتاقك، "وحشتني" لا تزيدني المرات القليلة التي أراك فيها من خلف شاشةٍ باردة، إلا اشتياقًا ووحشة لرؤيا العين.

يكاد قلبي أن ينخلع من بين أضلعي حين تضع صورة حديثة لك، أريد أن أراك في كل لحظة، لمَّ لا نكون معًا... الآن وللأبد؟!

أحبك، حقيقة تعرفها كما تعرف أصابع يدك، ولكن لا تعرف لأي درجةٍ أحبك؛ أنت معي في كل لحظة، أنت القريب مهما تباعدت بيننا المسافات، أنت الأغلى والأقرب والأعز.

أقولك سر؟

في كل ليلة أتوسد صدرك المُتَخَيَّل، أفتح حلقة من كارتوني المفضل، توم وجيري، أشاهدها معك ونضحك سويًا وننسى الخوف والحظر والمرض، تصفو الحياة ولا يبقى سوى ابتسامتك ودفء صدرك يسري بجسدي، وهمسة حنون بصوتك تداعب أذني أن نامي يا صغيرتي، نحن معًا فلا خوف ولا ضرر يمكن أن يصيبنا.

أغمض عيني وعلى جبيني بقايا قُبلتك الدافئة، وفي قلبي طمأنينة لا يشوبها فزع.

الجمعة 29 مايو 2020