
منذ قرأت عنها للمرة الأولى منذ عام ونصف وعن النجاح الذي حققته على المستويين النقدي والجماهيري وأنا أتمنى رؤيتها، ولكن كلما نويت مشاهدتها تحول الظروف دون ذلك. ففي المرة الأولى دُعيت لحضورها بمسرح جامعة القاهرة ولكن موعد العرض لم يكن يتناسب مع مواعيد عملي، فاعتذرت وأنا آسفة على فرصة يصعب تعويضها. ومنذ عشرة أيام جاءت الفرصة الثانية على غير ترتيب مني، كان يوم الافطار السنوي لشركتنا وكان يومًا طويلاً كنت أنوي الانتهاء منه سريعًا لألحق بحفل "مدحت صالح" بقصر الأمير طاز، وفي طريق العودة أخبرتني صديقتى أنها ذاهبة لمقابلة صديقة لها بالأوبرا وأن صديقنا الفيلسوف ذاهب لمشاهدة عرض مسرحي هناك فلما لا أذهب معه؟ التفت لصديقى بلهفة وسألته: "قهوة سادة"؟ وحين أجاب أنها هي تبخرت كل مخططاتي، عذرًا يا مدحت فهذه فرصة لن تتكرر وصحبة يستحيل تعويضها، وطرت من السعادة لاقترابي من تحقيق أمنيتي الغالية.
توجه ثلاثتنا للأوبرا ولكن للأسف كان اليوم هو حفل محمد منير السنوي وإذا بدار الأوبرا تتحول لثكنة عسكرية يصعب اقتحامها، أو كأنها جنة الخلد التي لا يجرؤ على الاقتراب من أسوارها سوى من يحمل "صك الغفران"، تذكرة حضور الحفل. طفنا بأبواب الأوبرا جميعها دون جدوى وذهبت أحلامي أدراج الرياح، فلا طلت عنب اليمن ولا بلح الشام.
وفي الأسبوع الأخير من رمضان "أخر موعد لعرض المسرحية" حاولت أكثر من مرة أن أذهب لمشاهدتها ولكن لم تفلح محاولاتي، خلاص بقى مش أول حاجة أحلم بيها وما تتحققش ولا هتكون أخر حاجة، أمري لله.
وبالصدفة البحتة مساء الخميس الماضي كنت أتصفح جريدة الأخبار ليوم الجمعة، ووجدت خبر صغير بصفحة البرامج: "قهوة سادة" على الشاشة الصغيرة.. مسحت النظارة جيدًا وتأكدت من تاريخ الجريدة وأعدت قراءة الخبر.. نعم هذه جريدة الجمعة 18 سبتمبر 2009 والخبر صحيح ليس خيالاً، المسرحية ستعرض عند منتصف الليل بقناة القاهرة والناس... يا الله كم أنت كريم معي، ها هو حلمي يأتي إليّ دون انتظار.
وفورًا قمت بضبط منبه الموبايل ومؤقت التلفاز، ونمت وكلي سعادة وبهجة اتعجل مرور الساعات لأشاهد المسرحية، بالطبع لم أنس صديق رحلة الطواف الأوبرالي وأخبرته بهذا النبأ السار.
وجاء يوم الجمعة ومنذ الصباح أعلنت الأحكام العرفية بالمنزل، وأخبرت أمي أنها لن تشاهد اليوم حلقة "معز مسعود" كاملة فلتشاهد إعادتها صباحًا، وكعادتها رضخت لأوامري. مسكينة معي هذه الأم الحنون ترى ابنتها الكبرى مجنونة ومولعة بأشياء غريبة، أو هكذا تبدو لها، ولكنها لا تملك سوى النزول على رغباتها والدعاء لها بصلاح الحال و"روقان البال".
المهم حانت الساعة الموعودة وانتصف ليل القاهرة واتخذت مجلسي في مواجهة الشاشة، ممنية نفسي بأمسية رمضانية تتحقق فيها أحلامي. لحظتها راودتني خاطرة أن هذه الليلة "ليلة التاسع والعشرون من رمضان" هي بالفعل ليلة القدر.
وبدأت المسرحية وأخذتني لعالمها المسحور، أسرتني روعتها وسرت وراء لوحاتها الاثنى عشر كالمندوه الذي لا يرى ولا يسمع سوى "النداهة" فيتبعها دون سؤال. بالطبع كل لوحة/ مقطع من المسرحية يستحق التوقف عنده والتأمل فيه، فكل كلمة بل كل لحظة صمت تحمل في طياتها ملايين الأفكار. ولكن قطعًا كأنثى جاوزت الثلاثين دون "فارس الأحلام" هزني بشدة مقطع "العنوسة وتأخر سن الزواج"، ولكن كإنسان زلزلني مقطع "صلة الرحم" وأعجبني حد الوجع، وخفت أن ألقى يومًا هذا المصير.
أما المقطع الذي أضحكني حد البكاء، رغم أنه يكاد يكون مشهد صامت، لايوجد به سوى جملة أو جملتين، فهو مقطع "معركة بلا نهاية". تصورت في البداية أن الصديق توفى في حربٍ مثلاً ويُطالب صديقه بالثأر من أعدائه، وتصورت أشياء من قبيل "عباس الضو قال لأ... حضارة سبعة آلاف سنة بتقول لأ..لأااااااااااااه". ولكن جاء المشهد مخالفًا لتوقعاتي، وتحول الصديق، المُحمَّل بواجب الثأر لصديقه، إلى "سوبرمان" يقهر كل من يقف في طريقه، وها هو يقضى على جميع خصومه ليصل في النهاية إلى المحبوبة التي مات في سبيلها صديقه، وإذ بي أُفاجأ أنها "بضعة أرغفة من الخبز البلدي"!! ضحكت بل قهقهت إلى أن دمعت عيناي، مهما كُتِّب عن أزمة رغيف العيش والطوابير وضحاياها لن يوجد ما يُضاهي عبقرية هذا المشهد الذي زاد من وقعه وتأثيره الأغنية التي تلته "القمح الليلة ليلة عيده".. يااااااااااااااه إيه الروعة دي.
مسرحية "قهوة سادة" قد تكون بدون نجوم لامعة أو أسماء براقة، ولكنها مضبوطة قوي بمواهب تلقائية وشباب يرسم غد قد يكون أفضل إذا استمروا بهذا الاصرار، شباب مسكون بهموم بلاده يسخر منها دون استهانة، ويحب بلده دون مزايدة، وربما كانت اللوحة الأخيرة "الهجرة غير الشرعية" هي الصرخة التي اطلقوها في وجه الجميع، علها تجد من يستجيب لها.
عشت حلمًا جميلاً مع هذه المسرحية، لم يفسده سوى شئ واحد، بالطبع كانت ضربة موفقة من "طارق نور" أن يعرض مثل هذا العمل الناجح، ولكنه جانبه التوفيق في أنه لم يدرك خصوصية هذا العمل فشوهه بهذه الفواصل اللعينة من الاعلانات، فهذه المسرحية حالة درامية متكاملة يجب مشاهدتها دفعة واحدة. ولا أدري كيف غاب عنه، وهو من هو في عالم الاعلان، أن قطع مثل هذا العمل لن يجذب المشاهد بل على العكس سيزيده نفورًا من السلعة المُعلن عنها أيًا كانت. فمن يجلس لمتابعة "قهوة سادة" ليس كمن يجلس لمشاهدة حلقات المط والتطويل، فهو هنا لم يُفرِق بين جمهور "الست أم كلثوم" وجمهور "الست لما.. لما لما".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق